عبد الرحمن الناصر وإعلان الخلافة الأموية


إعلان الخلافة الأموية
عبد الرحمن الناصر وإعلان الخلافة الأموية


نظر عبد الرحمن الناصر -رحمه الله- إلى العالم الإسلامي من حوله، فوجد الخلافة العباسية قد ضَعُفت، وكان المقتدر بالله الخليفة العباسي في ذلك الوقت قد قُتِل على يد مؤنس المظفر التركي، وقد تولَّى الأتراك حكم البلاد فِعْليًّا، وإن كانوا قد أجلسوا الخليفة العباسي القادر بالله على كرسي الحُكم.
ثم نظر الناصر لدين الله إلى الجنوب فوجد العبيديين (الدولة العبيدية الفاطمية) قد أعلنوا الخلافة، وسمَّوا أنفسهم أمراء المؤمنين، فرأى أنه - وقد وحَّد الأندلس، وصنع هذه القوة العظيمة - أحق بهذه التسمية وبذلك الأمر منهم؛ فأطلق على نفسه لقب أمير المؤمنين، وسمى الإمارة الأموية بالخلافة الأموية[1].
ومن هنا يبدأ عهد جديد في الأندلس هو عهد الخلافة الأموية، وذلك ابتداء من عام (316هـ= 928م) وحتى عام (400هـ= 1010م)؛ أي: نحو أربع وثمانين سنة متصلة، وهو يُعَدُّ (عهد الخلافة الأموية) استكمالاً لعهد الإمارة الأموية، مع فروق في شكليات الحكم وقوة السيطرة والسلطان لصالح الأخير.
حملات عبد الرحمن الناصر التوسعية
بعد ثلاث سنوات من إعلان الخلافة الأموية سنة (319هـ= 931م) اتجه عبد الرحمن الناصر جنوبًا نحو مضيق جبل طارق، وقام بغزو بلاد المغرب وحارب العبيديين (الفاطميين) هناك، فضم سَبْتَة وطَنْجَة إلى بلاد الأندلس، وتمَّت له بذلك السيطرة الكاملة على مضيق جبل طارق، فبدأ بإمداد أهل السُّنَّة في منطقة المغرب بالسلاح، لكنه لم يشأ أن يمدَّهم بالجنود؛ تحسُّبًا لهجمات ممالك النصارى في الشمال.
خيانة حاكم سرقسطة
وفي سنة (323هـ= 935م) تَحْدُث خيانة من حاكم مملكة الشمال الشرقي (سَرَقُسْطَة) محمد بن هشام التُّجِيبي؛ حيث تحالف مع مملكة (ليون) النصرانية لحرب عبد الرحمن الناصر، وبكل حزم وقوة يأخذ عبد الرحمن الناصر جيشًا كبيرًا يتصدَّى به لهذه الخيانة ويهاجم مدينة (سَرَقُسْطَة)، وعند أطراف المدينة يهاجمه جيش (سَرَقُسْطَة)، فيغزو عبد الرحمن الناصر قلعة حصينة، ويمسك بقوَّاد هذا الجيش، ويقوم بإعدامهم على الفور أمام أعين الجميع في عمل لا يُوصف إلاَّ بالكياسة والحزم.
وهنا أعلن حاكم (سَرَقُسْطَة) محمد بن هشام التُّجِيبي ندمه وعودته إلى عبد الرحمن الناصر، وكعادة الأبطال الدُّهاة والساسة الحكماء قَبِلَ منه –رحمه الله- اعتذاره، ثم أعاده حاكمًا على (سَرَقُسْطَة)؛ رابحًا بذلك كل قلوب التجيبيين بعد أن كان قد تمكن منهم، متشبهًا في ذلك برسول الله حين قال لأهل مكة بعدما دخلها فاتحًا، وكانوا قد طردوه منها وآذوه هو وأصحابه: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ»[2].
وبمنطق الحزم وقت الحزم والعفو عند المقدرة عَمِلَ عبد الرحمن الناصر؛ فأطلق حُكَّام (سَرَقُسْطَة) بعد أن أعلنوا توبتهم، وأعاد التجيبيين إلى حكمهم؛ وفي سنة (326هـ=937م) بعث عبد الرحمن الناصر من سَرَقُسْطَة بحملة إلى أرض العدوِّ في الشمال، بقيادة نجدة بن حسين الصقلبي وأمر محمد بن هشام التجيبي بالخروج معه؛ اختبارًا لوفائه بالعهد، فخرج معه محمد، وقامت الحملة بواجبها؛ فاستولت على مدن وحصون، وهزمت النصارى هزيمة كبيرة، وعادت محملة بالغنائم إلى سَرَقُسْطَة[3].
موقعة الخندق أو سمورة
أن تسير الأمور هكذا على الدوام أمر في غاية الصعوبة، فليس هناك بشر لا يُخطئ، ولكل جواد كبوة. هذه ليست مبررات لما سيأتي بقدر ما هي بحث في العلَّة والسبب في محاولةٍ لتجنُّبه وتفاديه ما دام سَلَّمنا أنه من شِيَم البشر؛ ففي سنة (327هـ= 939م) وبعد سبع وعشرين سنة من بداية عهد عبد الرحمن الناصر كانت قوَّة الجيش الإسلامي قد بلغت شأوًا عظيمًا؛ حيث ناهزت المائة ألف مقاتل، والأندلس آنذاك تحت راية واحدة، أخذ عبد الرحمن الناصر هذا الجيش العظيم متجهًا إلى مملكة (ليون) النصرانية ليحاربهم هناك[4].
وفيما أشبه غزوة حُنَين تدور واحدة من أشرس وأعنف المعارك على المسلمين، سُمِّيَت بموقعة الخندق، وبانتهاء المعركة كان نصف عدد الجيش (خمسون ألفًا) بين القتل والأسر، وفرَّ عبد الرحمن الناصر  مع النصف الآخر عائدين بأكبر خسارة وأثقل هزيمة.
وأرجع المؤرخون سبب الهزيمة إلى أن بعض المسلمين كانوا يجدون في قلوبهم من عبد الرحمن الناصر، فقبعوا للصفوف، وسارعوا في الهرب، وجرُّوا على المسلمين الهزيمة وأوبقوهم[5].
إلا أننا نعتقد أن الأمر ليس بهذه البساطة الظاهرة، ونرى أن الدولة التي بلغت هذا القدر من القوة، وخرج منها هذا الجيش المجهز، وتوالي انتصاراتها السابقة قد يكون أوقع في نفس عبد الرحمن الناصر ما كان قد وقع من قبل في نفس مَنْ هو خير منه؛ حين قالوا: «لن نغلب اليوم من قلة». فأخذ -كما أخذوا- درسًا ربانيًّا قاسيًا.
العودة إلى الجهاد
بعد موقعة سمورة أو موقعة الخندق أو خندق سمورة لم يستسلم عبد الرحمن الناصر -رحمه الله، وهو الذي رُبِّيَ على الجهاد والطاعة لربِّه ولرسوله، فعَلِمَ مواضع الخلل ومواطن الضعف، ومن جديد تدارك أمره، وقام ومعه العلماء والمربُّون يُحَفِّزون الناس.
ومن جديد أعدُّوا العُدَّة وقاموا بحرب عظيمة على النصارى سنة (329هـ=941م) تلتها حملات مكثفة وانتصارات تلو انتصارات، ظلَّت من سنة (329هـ=941م) إلى سنة (335هـ=947م) حتى أيقن النصارى بالهلكة، وطلب ملك (ليون) الأمان والمعاهدة على الجزية، يدفعها لعبد الرحمن الناصر عن يدٍ وهو صاغر[6]، وكذلك فعل ملك نافار فدفعوا جميعًا الجزية ابتداءً من سنة (335هـ=947م)، وإن لم يمنع هذا من نقض ونشوب بعض الحروب خلال هذه الفترة وحتى آخر عهده / سنة (350هـ=961م).

[1] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/198، والمقري: نفح الطيب، 1/353.
[2] ابن هشام: السيرة النبوية 2/411، والسهيلي: الروض الأنف 4/170، وابن القيم: زاد المعاد 3/356، وابن كثير: السيرة النبوية 3/570، وابن حجر: فتح الباري 8/ 18.
[3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/405 وما بعدها.
[4] المقري: نفح الطيب، 1/355.
[5] ابن الخطيب: أعمال الأعلام ص37، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/415 وما بعدها.
[6] انظر: ابن الخطيب: أعمال الأعلام، ص37.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
طريق المسلم © 2012 | الى الأعلى | تعريب وتطوير |