ثورات الخوارج في المغرب والأندلس


الفترة الثانية من عهد الولاة
تبدأ هذه الفترة سنة 123هـ=741م وحتى سنة 138هـ=755م [1]، وقد شهدت هذه الفترة حروبًا كثيرة ونزاعات متجدِّدة تحكَّمت فيها العصبيات القبلية والعنصرية البغيضة، التي اتخذها ولاة الأندلس في ذلك الحين دَيْنًا لهم في تعاملهم؛ سواء مع العرب أو الأمازيغ (البربر)؛ مما أدَّى إلى ظهور ثورات متعدِّدة، ودخول أفكار جديدة لم تعهدها الأندلس من قبلُ.



بوفاة عقبة بن الحجاج -رحمه الله- آلت ولاية الأندلس إلى عبد الملك بن قَطَن الفِهْرِيّ مرَّة ثانية 123هـ=742م[2]، وقد حفلت ولايته الثانية هذه بأحداث جسام، كادت أن تعصف بالإسلام في الأندلس كلية، كان أخطرها تجدُّد الصراع العنصري البغيض بين العرب والأمازيغ البربر، وظهور طائفة الخوارج، الذين أشعلوا أُوَار[3] الحرب وقادوا الثورة على عمال بني أمية، الذين أساءوا استعمال السلطة والمعاملة مع الأمازيغ (البربر)؛ مما أتاح للأمازيغ (البربر) اعتناق تلك الأفكار الخارجة عن الدين؛ فقد وجدوا فيها مناصًا لنيل حقوقهم المغتصبة من جَوْر الولاة[4].
بدأت الفتنة الأمازيغية (البربرية) الكبرى في المغرب العربي على يد الخوارج، الذين تغلغلوا في صفوف الأمازيغ البربر ونشروا تعاليمهم، التي لاقت قبولاً واسعًا في المجتمع الأمازيغي البربري، الذي يُعاني من ظلم الولاة، فخرجوا بقيادة زعيمهم ميسرة المطغري –أو المدغري- على حاكم طَنْجَة عمر بن عبد الله المُرَادِيّ ;وقتلوه، وزحفوا إلى بلاد السوس في الغرب وقتلوا عاملها إسماعيل بن عبيد الله[5]، كان لكل هذا وقع الصدمة على عبيد الله بن الحبحاب والي إفريقية، فجمع جموعه وجيَّش جيوشه؛ ليتدارك الأمر قبل فواته وتعاظم قوَّة الخارجين عليه، فالتقى الفريقان من العرب والأمازيغ البربر عند وادي شليف، وكانت الهزيمة المنكرة للعرب؛ فقد قُتِلَ فيها أشرافهم وفرسانهم وأبطالهم؛ لذلك سميت بمعركة الأشراف وذلك سنة 123هـ=742م [6]. 
وبلغت أخبار الهزيمة الخليفة هشام بن عبد الملك، فغضب غضبته الشهيرة؛ وقال: «والله! لأغضبنَّ لهم غضبة عربية، ولأبعثنَّ لهم جيشًا أوله عندهم وآخره عندي»[7]. فعزل هشامُ بن عبد الملك عبيدَ الله بن الحبحاب، واستقدمه في جمادى الآخرة سنة 123هـ، وبعث كلثوم بن عياض القُشَيْرِيّ على رأس جيش بلغ ثلاثين ألفًا، وعَهِد له بولاية إفريقية وضَبْط أمورها، وجعل معه ابن أخيه بَلْج بن بشر القُشَيْرِيّ، وثعلبة بن سلامة العَامِلِيّ[8]، واستعدَّ الجيشان العربي بقيادة كلثوم بن عياض والأمازيغي البربري بقيادة خالد بن حميد الزَّنَاتِيّ، واقتتلوا قتالاً شديدًا، لكن دارت الدائرة على العرب، وقُتِلَ قائدهم كلثوم بن عياض، واستطاع بَلْج بن بشر أن ينجو بنفسه وبعضًا من جنده، وتحصَّنوا بمدينة سَبْتَة، وفرض الأمازيغ البربر الحصار على بَلْج ومَنْ معه لمدَّة سنة كاملة 123، 124هـ، وكانوا طوال هذا العام يستغيثون بعبد الملك بن قَطَن والي الأندلس، ولكن بلا مجيب[9]!
ثورات الخوارج في الأندلس
ويبدو أن عَدْوَى الخروج على الحكَّام انتقلت إلى الأندلس، فلم تلبث الثورة أن انتقلت إلى أمازيغ بربر الأندلس، الذين أعلنوا العصيان، وبدءوا بجِلِّيقِيَّة وأستورقة في الشمال الغربي للأندلس حيث الكثافة الأمازيغية البربرية، فقتلوا العرب وطردوهم من البلاد، إلاَّ ما كان من سَرَقُسْطَة فقد كانت الغلبة فيها للعرب[10]. 
وبعد أن ثَبَّت الأمازيغ البربر أقدامهم في تلك المناطق، زحفوا باتجاه المدن الكبرى للسيطرة عليها من خلال ثلاثة جيوش، وَفْقَ خُطَّة ذكية أدركت مواطن الضعف في الولاية الأندلسية، وعملت على استغلالها:
الأول: إلى طُلَيْطِلَة عاصمة الثغر الأدنى.
الثاني: إلى قُرْطُبَة عاصمة الأندلس.
الثالث: إلى الجزيرة الخضراء في أقصى الجنوب للبلاد. 
وأمام هذا الزحف الأمازيغي البربري لم يجد عبد الملك بن قَطَن بُدًّا من الاستعانة ببَلْج وأصحابه المحاصرين في سَبْتَة، وقد كان لا يرضى أن يُغيثهم، ولا يرضى أن يُنزلهم الأندلس حتى أكلتهم المجاعة، فبعث إليهم بالسفن والمئونة، وسمح لهم بالعبور إلى الأندلس؛ لإخماد الثورة الأمازيغية البربرية، التي كادت أن تعصف به[11]، وكانت المواجهة الأولى بين بَلْج بن بشر والجيش الأمازيغي البربري الثالث المتجه ناحية الجزيرة الخضراء في جنوب الأندلس، وقد وقعت المعركة في ذي القعدة من عام 113هـ على مقربة من شَذُونَة، وأثبت فيها الجنود الشاميون بقيادة بَلْج بن بشر شجاعة وإقدامًا، رجَّحت كِفَّة النصر فيها للعرب، وفي التوقيت نفسه كانت قُرْطُبَة تصدُّ هجمات الجيش الأمازيغي البربري الثاني، وبمجرَّد أن انتصر بَلْج بن بشر على الجيش الثالث لحق بقُرْطُبَة فقاتل مع عبد الملك بن قَطَن الجيشَ البربري الثاني، فهزماه هزيمة ساحقة، حتى لم يبقَ من الأمازيغ البربر إلاَّ الشريد، الذي لحق بالجيش الأول المحاصر لطُلَيْطِلَة، وهناك عند وادي سليط جرت معركة طاحنة سُحق فيها الجيش الأمازيغي البربري الأول، وسُحقت ثورتهم، وتشتَّت جمعهم، وتفرَّقوا في البلاد، ولم تقم لهم بعدها قائمة[12].

[1] بيان ذلك في ثبت الولاة كما هو عند المقري: نفح الطيب 1/298-300، وذكر الولاة كما هو ترتيب ابن عذاري في البيان المغرب 2/22-38.
[2] ابن عذاري: البيان المغرب 2/30، والمقري: نفح الطيب 1/236، وانظر: مجهول: أخبار مجموعة، ص35، وفيه يقول: إن ولايته سنة 21هـ، وكذلك في البيان المغرب 1/53.
[3] الأوار: حر الشمس والنار والدخان واللهب. ابن منظور: لسان العرب، مادة أور 4/35، والمعجم الوسيط 1/32.
[4] انظر في تفاصيل ذلك حسين مؤنس: فجر الأندلس ص170-173، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص79، 80.
[5] مجهول: أخبار مجموعة ص34، 35، وابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها 1/237، وابن عذاري: البيان المغرب 1/52.
[6] ابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها 1/237، وابن عذاري: البيان المغرب 1/53.
[7] ابن عذاري: البيان المغرب 1/54.
[8] مجهول: أخبار مجموعة ص36، وابن عبد الحكم: فتوح مصر وأخبارها 1/239، وابن عذاري: البيان المغرب 1/54، 55، 2/30، والمقري: نفح الطيب 3/20.
[9] مجهول: أخبار مجموعة 37-42، وابن عذاري: البيان المغرب 1/55، 56، 2/30، والمقري: نفح الطيب 3/20، 21.
[10] مجهول: أخبار مجموعة ص42.
[11] مجهول: أخبار مجموعة ص42، 43، وابن عذاري: البيان المغرب 2/30، 31.
[12] انظر تفصيل ذلك عند مجهول: أخبار مجموعة ص43، 44، وابن عذاري: البيان المغرب 2/31، وحسين مؤنس: فجر الأندلس ص174، 176، ومحمد سهيل طقوش: تاريخ المسلمين في الأندلس ص86، 87.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
طريق المسلم © 2012 | الى الأعلى | تعريب وتطوير |