دولة المرابطين .. الضعف ثم الانهيار


المرابطون الهزيمة والانحدار.. وقفة متأنية
المرابطين

على إثر قيام ثورة في المغرب في عقر دار المرابطين، وعلى إثر هزيمتين متتاليتين لهم في الأندلس من قِبل النصارى، يحق لنا أن نتساءل: لماذا تقوم الثورة في هذا الوقت في دولة المرابطين؟! ولماذا هذا الانحدار وتلك الهزائم المتتالية؟!
وفي تحليلٍ موضوعيٍّ لهذه الأحداث نعود بالتاريخ إلى بداية نشأة دولة المرابطين وقيامها، فمنذ عام (440هـ=1048م) ولمدة سبعين عامًا تقريبًا، وحتى عام (509هـ= 1115م) حيث الانتصارات المتتالية، وحيث العلو والارتفاع، وحيث الأموال والغنائم، والدنيا التي فُتِحَتْ على المسلمين، والتي وصلوا فيها إلى درجة عالية من العزِّ والسلطان والتمكين، فما المتوقَّع بعد ذلك، وما الأحداث الطبيعية التي من الممكن أن تحدث كما سبق ورأينا؟!
لا شكَّ أن الشيء الطبيعي والمتوقَّع حدوثه هو حصول انكسار من جديد للمسلمين، وحدوث فتنة من هذه الدنيا التي فُتحت على المسلمين، وفتنة من هذه الأموال التي كثرت في أيديهم.
وقد يتساءل البعض: هل من المعقول بعد انتصارات أبو بكر بن عمر اللمتوني، وانتصارات يوسف بن تاشفين وأعماله، وبعد الزلاقة، هل من المعقول بعد كل هذا أن يحدث انكسار للمسلمين؟!
وفي معرض الردِّ على هذا نقول: كيف نتعجَّبُ من حدوث هذا الانكسار الذي حدث بعد وفاة يوسف بن تاشفين، ولا نستغربه وقت أن حدث بعد وفاة رسول الله  متجسدًا في الردة الكبيرة التي حدثت بين المسلمين؟! وهو -بلا شكٍّ- أعظم تربية وأقوى أثرًا من يوسف بن تاشفين ومَنْ على شاكلته؛ وخاصة إذا كانت هناك شواهد بَيِّنَة لهذا الانكسار وتلك الرجعة.
عوامل سقوط  دولة المرابطين
دولة المرابطين
كدورة طبيعية من دورات التاريخ، ومما لا يُعَدُّ أمرًا غريبًا أو غير متوقَّع، كانت هناك شواهد بَيِّنَة لانكسار وتراجع دولة المرابطين عما كانت عليه قبل ذلك؛ نستطيع أن نُجملها فيما يلي:

فتنة الدنيا وإن ظل أمر الجهاد قائما
بالرغم من عدم توقُّف الجهاد، وبالرغم من صولات وجولات علي بن يوسف بن تاشفين، التي كانت له مع النصارى وفي أكثر من موقعة، إلاَّ أن المرابطين كانوا قد فُتنوا بالدنيا، وهو يُعَدُّ شيئًا غريبًا جدًّا، وفي تحليل لمنشأ هذا الشاهد وُجد أن سببه خطأ كبير كان قد ارتكبه المسلمون في دولة المرابطين، وهم عنه غافلون، وليتنا نأخذ العظة والعبرة منه؛ فقد جعلوا جُلَّ اهتمامهم التركيز على جانب واحد من جوانب الإسلام، وتركوا أو أهملوا الجوانب الأخرى، كما نرى من إغفال هذه الجوانب في كتب التاريخ؛ فقد انشغل المرابطون -في أرض الأندلس وفي بلاد المغرب وما حولها من البلاد- بالجهاد في سبيل الله عن إدارة الحُكم وعن السياسة داخل البلاد، شُغلوا بالأمور الخارجية عن الأمور الداخلية، والإسلام بطبيعته دين متوازن، ونظام شامل لا يُغَلِّب جانبًا على جانب، وقد رأينا مثالاً واضحًا لهذا الأمر في تلك الدولة المتوازنة التي أقامها عبد الرحمن الناصر -رحمه الله، في نواحي العلم والجهاد، والاقتصاد والقانون، والعمران والعبادة.. وكل شيء؛ حيث الدولة التي تسدُّ حاجات الروح والجسد، فسادت وتمكَّنَتْ وظلَّت حينًا من الدهر.
ومثلها -أيضًا- كانت بداية دولة المرابطين وإقامة الجماعة المتوازنة على يد الشيخ عبد الله بن ياسين، تلك التي اهتم في قيامها بكل جوانب الحياة وعوامل ومقومات الدولة المتكاملة، التي تعطي كل جانب من مقوِّماتها قدرًا مناسبًا من الجهد والوقت والعمل، فتعلَّمُوا أن يكونوا فرسانًا مجاهدين، ورهبانًا عابدين، كما تعلَّمُوا أن يكونوا سياسيين بارعين، ومتعاونين على منهج صحيح من الإسلام وأصوله، لكن أن يُوَجِّه المسلمون كل طاقاتهم إلى الجهاد في سبيل الله في سَنَة 500هـ وما بعدها، ثم يتركون أمور السياسة الداخلية وتثقيف الناس وتعليمهم أمور دينهم، فتلك هي قاصمة الظهر.
كثرة الذنوب رغم وجود العلماء
كثرت الذنوب والمعاصي في دولة المرابطين؛ سواء أكان ذلك في الأندلس أو في أرض المغرب، وهذا مع وجود العلماء الكثيرين في ذلك الوقت، وكثرة الذنوب كان أمرًا طبيعيًّا خاصَّة بعد أن فُتحت البلاد وكثرت الأموال؛ وذلك لأن معظم الذنوب تحتاج إلى أموال لاقترافها، وأصحاب النفوس الضعيفة، الذين كانوا يقطنون في دولة المرابطين (في المغرب) وكانوا يفكرون في الذنوب لكن لا يقدرون عليها، أما الآن وقد فُتحت الدنيا عليهم وكثرت الأموال في أيديهم، فتحرَّكت هذه النفوس الضعيفة ناحية الذنوب، وبدأت ترتكب من الذنوب والكبائر ألوانًا وأشكالاً.
ولا شكَّ أنه كان هناك الغني الشاكر، لكن الحق أن هذا هو الاستثناء وليس القاعدة، والأصل أن الناس جميعًا يُفتنون بالدنيا، ويقعون في الذنوب إذا كثر المال في أيديهم، يقول  في معرض قصة نوحٍ : {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ[هود: 27]. والأراذل هم ضعاف الناس وبسطاء القوم وفقراؤهم، وهم الذين اتبعوا نوحًا ، واتبعوا الرسل من بعده، واتبعوا كل الدعاة إلى يوم القيامة؛ ومن هنا فإنَّ كثرة الذنوب أمر طبيعي ومتوقَّع كنتيجة مباشرة لكثرة الأموال، لكن أين العلماء الكثيرون المنتشرون في بلاد الأندلس وبلاد المغرب العربي في ذلك الوقت؟!
كيف يفتن الناس بالدنيا وراية الجهاد خفاقة، وكيف تكثر الذنوب رغم وجود العلماء الأجلاء؟!
واقع الأمر أن العلماء هم الذين يقع على عاتقهم العبء الأكبر من هذا التدني وذاك الانحدار؛ إذ نراهم وقد انشغلوا بفرعيات الأمور وأغفلوا أساسياتها؛ لقد طرقوا أمورًا وتركوا أمورًا أولى وأهمَّ منها، أخذوا يُؤَلِّفون المؤلفات، ويعقدون المناظرات، ويُقَسِّمون التقسيمات في أمور لا ينبني عليها كثير عمل، ولا كثير جدوى؛ بينما أغفلوا أمورًا ما يصحُّ لهم أبدًا أن يتركوها أو يُغفلوها، يقول عبد الواحد المراكشي: «ولم يكن يقرب من أمير المسلمين ويحظى عنده إلاَّ مَنْ عَلِمَ الفروع -أعني فروع مذهب مالك- فنفقت في ذلك الزمان كتب المذهب، وعُمِلَ بمقتضاها، ونُبِذَ ما سواها، وكثر ذلك حتى نُسِيَ النظر في كتاب الله وحديث رسول الله ؛ فلم يكن أحد من مشاهير أهل ذلك الزمان يعتني بهما كل الاعتناء، ودان أهل ذلك الزمان بتكفير كل مَنْ ظهر منه الخوض في شيء من علوم الكلام، وقرر الفقهاء عند أمير المسلمين تقبيح علم الكلام، وكراهة السلف له، وهجرهم مَنْ ظهر عليه شيء منه، وأنه بدعة في الدين، وربما أدَّى أكثره إلى اختلال في العقائد في أشباه لهذه الأقوال، حتى استحكم في نفسه بغض علم الكلام وأهله، فكان يكتب عنه في كل وقت إلى البلاد بالتشديد في نبذ الخوض في شيء منه، وتوعُّد مَنْ وُجِدَ عنده شيء من كتبه، ولما دخلت كتب أبي حامد الغزالي -رحمه الله- المغرب أمر أمير المسلمين بإحراقها، وتقدَّم بالوعيد الشديد من سفك الدم واستئصال المال إلى مَنْ وُجِدَ عنده شيء منها، واشتد الأمر في ذلك»[1].
لقد أحرق علي بن يوسف بن تاشفين بالفعل كتب أبي حامد الغزالي، باعتبارها تخالف الإسلام الصحيح، وهو الإمام الذي لقب بحجة الإسلام، وكان سيد فقهاء المشرق، وهو الذي أفتى ليوسف بن تاشفين بحكم الشرع في ملوك الطوائف، فكانت فتواه أقوى ما استند إليه يوسف في إزالة ممالك الطوائف وتوسيع دولة المرابطين!
النتائج التي ترتبت على تعمق العلماء في الفروع دون الأصول
كان اتِّجَاه العلماء في ذلك الوقت إلى التعمُّق في الفروع وإهمال الأصول، كمَنْ ترك لُجَّة البحر واتجه إلى القنوات الفرعية، فأنَّى له الوصول؟! وأنَّى لعمله الفائدة المرجوَّة منه؟! فكان -ونتيجة طبيعية لذلك- أن نتج عن هذا القلب الخاطئ، وذاك التعمق في الفروع تلك الأمور الخطيرة التالية:
جدال عظيم عقيم بين العلماء والعامة
وذلك أن العلماء لم يفهموا أو لم يستطيعوا أن يتفهموا حاجة العامة، كما لم تعرف العامة ما يتنطَّع به العلماء، وقد كان نبينا  -وهو أعلم البشر، وأحكم الخلق- يتكلَّم بالكلمة فيفهمه علماء الصحابة ويفهمه الأعرابي البسيط، كما كان يفهمه الرجل وتفهمه المرأة، والكبير والصغير، كلٌّ على حدٍّ سواء.
عزلة العلماء عن مجتمعاتهم
باتجاه العلماء إلى دقائق الأمور من الفروع لم يَعُدْ يشغلهم حال مجتمعاتهم، ولم يعودوا هم يعرفون شيئًا عمَّا يدور فيها، وما يحلُّ بها من مصائب وذنوب، فتوسَّعت الهوَّة كثيرًا بينهم وبين مجتمعاتهم، وحدثت بذلك عزلة خطيرة لهم في العهد الأخير للمرابطين؛ فكانت الخمور تُباع وتُشترى، بل وتُصنَّع في البلاد ولا يتكلَّم أحد، وكانت الضرائب الباهظة تُفرض على الناس غير الزكاة وبغير وجه حقٍّ، ولا يتكلَّم من العلماء أحد، وكان الظلم من الولاة لأفراد الشعب ولا يتكلم من العلماء أحد، وكانت هناك ملاهي الرقص لا تُستر، بل تُعْلِن عن نفسها في سفور ولا يتكلم من العلماء أحد، وإنه لعجب والله! أن تحدث مثل هذه الأمور في هذا الزمن (من بعد سنة خمسمائة من الهجرة) وتلك الدولة المرابطية، فقد كانت النساء تخرج سافرات بلا حجاب، والعلماء لاهون بالحديث عن المرجئة والمعطِّلة، وغيرها من أمور الجدال العقيمة والفُرْقَة المقيتة، ويعتقدون أن مثل هذه الأمور هي التي يجب أن يُشغَل بها المسلمون، وغيرها هي الأقل أهمية من وجهة نظرهم[2].
أزمة اقتصادية حادة
كان من بين شواهد الانكسار الأخرى في نهاية دولة المرابطين، وبعد فتنة الدنيا والمال، وغياب الفهم الصحيح لتعاليم الإسلام، وكثرة الذنوب، وجمود الفكر عند العلماء وانعزالهم عن المجتمع، كان فوق كل هذه الأمور أن حدثت أزمة اقتصادية حادة في دولة المرابطين؛ ففي سنة (532هـ) وقع السيل العظيم بطنجة، حمل الديار والجدر، ومات فيه خلق عظيم من الناس والدواب[3]. وكذلك فتك الجراد بحقول الأندلس من سنة (526هـ) وحتى سنة (531هـ)، فاشتدت المجاعة وانتشر الوباء في سنة (526هـ) بأهل قرطبة، فكثر الموتى وبلغ مُدُّ القمح 15 دينارًا[4]، وكان قد وقع قبل ذلك بسنة (525هـ)، حريق ضخم في سوق الكتانين بقرطبة، واتصالها بسوق البز، كذلك حدث في سنة (535هـ) حريق ضخم آخر في سوق مدينة فاس، فاحترقت سوق الثياب والقراقين وغير ذلك من الأسواق إلا البقالون، وأن ذلك كان في أول الليل فتلفت أموال جليلة، وافتقر فيه خلق كثير[5].
وبعض المصادر تتحدث -أيضًا- عن القحط الذي حلَّ بالبلاد، فيبست الأرض وجفَّ الزرع وهلكت الدواب[6].
وقد يرى البعض أن هذا من قبيل المصادفة البحتة والعجيبة في الوقت نفسه، لكنها والله! ليست مصادفة؛ بل هي في كتاب الله  ومن سُنَنِه الثوابت، يقول تعالى في كتابه الكريم: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[الأعراف: 96].
وهذا كلام نوحٍ  في حديثه لقومه؛ حيث يقول: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا[نوح: 10- 13].
فالله I يبتلي المؤمنين دائمًا بالقحط وبالأزمات الاقتصادية الحادة عندما يبتعدون عن طريقه، وعن نهجه القويم الذي رسَمَهُ لهم، ومن هنا فلو لوحظ تدهور في الحالة الاقتصادية لأحد البلدان أو المجتمعات، وبدأت الأموال تقلُّ في أيدي الناس، وبدءوا يعملون لساعات وساعات ولا يحصل لهم ما يكفي لسدِّ رمقهم، أو ما يكفي لعيشهم عيشة كريمة، فاعلم أن هناك خللاً في العلاقة بين العباد وربهم I، وأن هناك ابتعادًا عن منهجه وطريقه المستقيم؛ إذ لو كانوا يُطيعونه لبارك لهم في أقواتهم وأرزاقهم.
هزائم المرابطين
هزيمة كتندة والقليعة
وبالطبع سبق وأعقب هذه الأحداث التي وقعت في بلاد المرابطين هزائم متعدِّدَة من قِبل النصارى، فكانت -كما ذكرنا- موقعة كتندة أو قتندة في سنة (514هـ=1120م)، والتي هُزم فيها المسلمون هزيمة منكرة[7]، ومثلها وبعدها -أيضًا- كانت موقعة القليعة في سنة (523هـ=1129م)، والتي مُني فيها المسلمون -أيضًا- بالهزيمة المنكرة[8].

[1] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص236، وما بعدها.
[2] عبد الواحد المراكشي: المعجب، ص241، وانظر وثائق مرابطية نشرها حسين مؤنس في مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية بمدريد – العدد 2 سنة 1954م.
[3] ابن عذاري: البيان المغرب، 4/96.
[4] ابن القطان المراكشي: نظم الجمان، ص226، 228، 230، 235، 242، 250، 252.
[5] المصدر السابق، ص222، 268.
[6] انظر: مراجع الغناي: سقوط دولة الموحدين، نقلاً عن الصلابي: دولة المرابطين، ص229.
[7] انظر في خبر هذه الموقعة: ابن الأثير: الكامل، 9/206.
[8] انظر خبر هذه الموقعة: ابن القطان: نظم الجمان، ص152، وما بعدها.


0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
طريق المسلم © 2012 | الى الأعلى | تعريب وتطوير |