الزهراوي .. أشهر علماء الأندلس


أبو القاسم الزهراوي .. أعظم جراح
أبو القاسم الزهراوي

لنا مع هذا الرجل وقفة أطول قليلاً؛ إذ يُعَدُّ خلف بن عباس المشهوربأبي القاسم الزهراوي (ت 427هـ= 1036م) من العلماء الأعلام في الأندلس، وفي التاريخ الإسلامي كله، كان لكتابِهِ (التصريف لمن عجز عن التأليف) الفضل في أن أصبح من كبار جرَّاحي العرب المسلمين، وأستاذ علم الجراحة في العصور الوسطى وعصر النهضة الأوربية حتى القرن السابع عشر، ومن خلال دراسة كُتُبِهِ تبيَّن أنه أوَّل من وصف عملية تفتيت الحصاة في المثانة، وبَحَثَ في التهاب المفاصل، وفي السلِّ.. وغيرها[1].
والزهراوي -المعروف في أوربا باسم (Abulcasis = أبو القاسم)- هو أول مَنْ تمكَّن من اختراعِ أُولى أدوات الجراحة؛ كالمشرط والمقصِّ الجراحي، كما وضع الأسس والقوانين للجراحة، التي من أهمِّها ربط الأوعية لمنع نزفها، واخترع خيوط الجراحة؛ فكان أَحَد العلماء الأعلام الذين سعدت بهم الإنسانية.
وقد وُلِدَ أبو القاسم الزهراوي في مدينة الزهراء، ونُسب إليها، كان طبيبًا فاضلاً خبيرًا بالأدوية المفردة والمركبة، جيد العلاج، وله تصانيف مشهورة في صناعة الطب، وأفضلها كتابه الكبير المعروف بالزهراوي، ولخلف بن عباس الزهراوي من الكتب كتاب (التصريف لمن عجز عن التأليف)، وهو أكبر تصانيفه وأشهرها، وهو كتاب تامٌّ في معناه([2]).
أبو القاسم الزهراوي .. إنجازات وإبداعات
كان الزهراوي يمارس بنفسه فنَّ الجراحة بدلاً من أنْ يُوكل ذلك -كما كانت العادة- للحجَّامين أو الحلاقين، فمارس الجراحة وحذق فيها وأبدع، حتى صار عَلَمًا من أعلام طبِّ الجراحة، لدرجة أنه لا يكاد يُذكر اسمه إلاَّ مقترنًا مع الطب الجراحي[3]، وقد حلَّ مبحث الزهراوي في الجراحة خاصة محلَّ كتابات القدماء، وظلَّ العمدة في فنِّ الجراحة حتى القرن السادس عشر، وباتت أفكاره حدثًا تحوُّليًّا في طرق العلاجات الطبية؛ حيث هيَّأ للجراحة قُدرة جديدة في شفاء المرضى أذهلت الناس في عصره وبعد عصره، وقد ساعدت آلاته الجراحية التي اخترعها على وضع حجر الأساس للجراحة في أوربا[4].
وقد وصف الزهراوي هذه الآلات والأدوات الجراحية التي اخترعها بنفسه للعمل بها في عملياته، ووصف كيفية استعمالها وطرق تصنيعها؛ منها: جِفت الولادة، والمنظار المهبلي المستخدم حاليًا في الفحص النسائي، والمحقن أو الحقنة العادية، والحقنة الشرجية، وملاعق خاصة لخفض اللسان وفحص الفم، ومقصلة اللوزتين، وجفت وكلاليب خلع الأسنان، ومناشير العظام، والمكاوي والمشارط على اختلاف أنواعها، وغيرها الكثير من الآلات والأدوات التي أصبحت النواة التي طُوِّرَتْ بعد ذلك بقرون لتُصبح الأدوات الجراحية الحديثة([5]).
يقول كامبل في كتابه (الطب العربي): «كانت الجراحة في الأندلس تتمتع بسمعة أعظم من سمعتها في باريس أو لندن أو أدنبره؛ ذلك أن ممارسي مهنة الجراحة في سَرَقُسْطَة كانوا يُمنحون لقب طبيب جراح, أمَّا في أوربا فكان لقبهم حلاق جراح، وظلَّ هذا التقليد ساريًا حتى القرن العاشر الهجري»([6]).
كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف
كتاب التصريف, أبو القاسم الزهراوي
وكتابه (التصريف لمن عجز عن التأليف) هو في الحقيقة موسوعة كثيرة الفائدة، تامَّة في معناها، لم يُؤَلَّف في الطب أجمع منها، ولا أحسن للقول والعمل، وتُعتبر من أعظم مؤلفات المسلمين الطبية، وقد وصفها البعض بأنها دائرة معارف، ووصفها آخرون بأنها ملحمة كاملة، وليس من الغريب أن تُصبح هذه الموسوعة المصدر الأساسي لجراحي الغرب حتى القرن السابع عشر، وتظلَّ المرجع الكبير لدارسي الطب في جامعات أوربا؛ مثل جامعة سالرنو ومونبلييه في القرن السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، والحقيقة التي ينبغي ألاَّ تُغْفل -أيضًا- أن الجراحين الذين عُرفوا في إيطاليا في عصر النهضة وما تلاه من قرون قد اعتمدوا اعتمادًا كبيرًا على كتاب (التصريف لمن عجز عن التأليف) للزهراوي[7]. ويقول عالم وظائف الأعضاء الكبير هالّر: «كانت كتب أبي القاسم المصدر العام الذي استقى منه جميع مَنْ ظهر من الجراحين بعد القرن الرابع عشر»[8].

والزهراوي هو أوَّل مَنْ جعل الجراحة علمًا قائمًا على التشريح، وأوَّل من جعله علمًا مستقلاً، وقد استطاع أن يبتكر فنونًا جديدة في علم الجراحة، وأن يُقَنِّنَها[9]، وهو أوَّل مَنْ وصف عملية القسطرة، وصاحب فكرتها والمبتكر لأدواتها، وهو الذي أجرى عمليات صعبة في شقِّ القصبة الهوائية، وكان الأطباء قبله -مثل: ابن سينا والرازي- قد أحجموا عن إجرائها لخطورتها، وابتكر الزهراوي -كذلك- آلة دقيقة جدًّا لمعالجة انسداد فتحة البول الخارجية عند الأطفال حديثي الولادة؛ لتسهيل مرور البول، كما نجح في إزالة الدم من تجويف الصدر، ومن الجروح الغائرة كلها بشكل عام. والزهراوي -كذلك- هو أول مَنْ نجح في إيقاف نزيف الدم أثناء العمليات الجراحية؛ وذلك بربط الشرايين الكبيرة، وسبق بهذا الربط سواه من الأطباء الغربيين بستمائة عام! والعجيب أن يأتي مِنْ بعده مَنْ يَدَّعي هذا الابتكار لنفسه، وهو الجراح إمبراطور باري عام (1552م).
وهو –أيضًا- أول من صنع خيطانًا لخياطة الجِرَاح، واستخدمها في جراحة الأمعاء خاصة، وصنعها من أمعاء القطط، وأول من مارس التخييط الداخلي بإبرتين وبخيط واحد مُثَبَّتٍ فيهما؛ كي لا تترك أثرًا مرئيًّا للجِرَاح، وقد أطلق على هذا العمل اسم (إلمام الجروح تحت الأدمة)، وهو أوَّل من طبَّق في كل العمليات التي كان يُجريها في النصف السفلي للمريض رفع حوضه ورجليه قبل كل شيء؛ ممَّا جعله سبَّاقًا على الجرَّاح الألماني (فريدريك تردلينوبورغ) بنحو ثمانمائة سنة، الذي نُسب الفضل إليه في هذا الوضع من الجراحة؛ ممَّا يُعَدُّ اغتصابًا لحقٍّ حضاري من حقوق الزهراوي المبتكر الأول لها[10].
كما يُعَدُّ الزهراوي أول رائد لفكرة الطباعة في العالم؛ فلقد خطا الخطوة الأولى في صناعة الطباعة، وسبق بها الألماني يوحنا جوتنبرج بعدَّة قرون، وقد سَجَّل الزهراوي فكرته عن الطباعة ونفَّذَها في المقالة الثامنة والعشرين من كتابه الفذِّ (التصريف)؛ ففي الباب الثالث من هذه المقالة، ولأول مرَّة في تاريخ الطب والصيدلة يصف الزهراوي كيفية صنع الحبوب (أقراص الدواء)، وطريقة صنع القالب الذي تُصَبُّ فيه هذه الأقراص أو تُحَضَّر، مع طبع أسمائها عليها في الوقت نفسه باستخدام لوح من الأبنوس أو العاج مشقوق نصفين طولاً، ويُحْفَر في كل وجه قدر غِلَظِ نصف القرص، وينقش على قعر أحد الوجهين اسم القرص المراد صنعه مطبوعًا بشكل معكوس، فيكون النقش صحيحًا عند خروج الأقراص من قالبها؛ وذلك منعًا للغشِّ في الأدوية، وإخضاعها للرقابة الطبية.
وفي ذلك يقول شوقي أبو خليل: «ولا ريب أن ذلك يُعطي الزهراوي حقًّا حضاريًّا لكي يكون المؤسس والرائد الأول لصناعة الطباعة، وصناعة أقراص الدواء؛ حيث اسم الدواء على كل قرص منها، هاتان الصناعتان اللتان لا غنى عنهما في كل المؤسسات الدوائية العالمية، ومع هذا فقد اغْتُصِبَ هذا الحقُّ وغفل عنه كثيرون»[11].
وكذلك يُعَدُّ الزهراوي أوَّل مَنْ وصف عملية سَلِّ العروق من الساق لعلاج دوالي الساق والعرق المدني، واستخدمها بنجاح، وهي شبيهة جدًّا بالعملية التي نمارسها في الوقت الحاضر، والتي لم تُستخدم إلاَّ منذ حوالي ثلاثين عامًا فقط، بعد إدخال بعض التعديل عليها[12]، وللزهراوي إضافات مهمَّة جدًّا في علم طب الأسنان وجراحة الفكَّيْنِ، وقد أفرد لهذا الاختصاص فصلاً خاصًّا به[13].
وكان مرض السرطان وعلاجه من الأمراض التي شغلت الزهراوي، فأعطى لهذا المرض الخبيث وصفًا وعلاجًا بقي يُستعمل خلال العصور حتى الساعة، ولم يزد أطباء القرن العشرين كثيرًا على ما قدَّمه علامة الجراحة الزهراوي[14].
وإن ما كتبه الزهراوي في التوليد والجراحة النسائية ليُعتبر كنزًا ثمينًا في علم الطب؛ ولقد ابتكر آلة خاصة لاستخراج الجنين الميت فسبق الدكتور فالشر بنحو تسعمائة سنة في وصف ومعالجة الولادة الحوضية، وهو أول مَن استعمل آلات خاصة لتوسيع عنق الرحم، وأول مَنِ ابتكر آلة خاصة للفحص النسائي لا تزال إلى يومنا هذا([15]).
ويحكي جوستاف لوبون عن الزهراوي فيصفه بقوله: «أشهر جراحي العرب، ووصف عملية سحق الحصاة في المثانة على الخصوص؛ فعُدَّت من اختراعات العصر الحاضر على غيرِ حقٍّ...» [16]. وجاء في دائرة المعارف البريطانية أنه أشهر مَنْ ألَّف في الجراحة عند العرب (المسلمين)، وأول من استعمل ربط الشريان لمنع النزيف[17].

[1] ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء، 1/333، وشوقي أبو خليل: الحضارة العربية الإسلامية، ص513.
[2] ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء، 3/246، والزركلي: الأعلام، 2/310.
[3] شوقي أبو خليل: علماء الأندلس.. إبداعاتهم المتميزة وأثرها في النهضة الأوربية، ص31، وجلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي، ص331، 332، وعلي عبد الله الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة الإسلامية، ص362.
[4] جلال مظهر: حضارة الإسلام، ص332.
[5] عامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية، ص176.
[6] نقلاً عن جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي، ص336.
[7] عامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية، ص221.
[8] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص490.
[9] علي عبد الله الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة الإسلامية، ص265، ومحمود الحاج قاسم: الطب عند العرب والمسلمين تاريخ ومساهمات، ص106.
[10] شوقي أبو خليل: علماء الأندلس إبداعاتهم المتميزة وأثرها في النهضة الأوربية، ص35، وعامر النجار: في تاريخ الطب في الدولة الإسلامية، ص162.
[11] شوقي أبو خليل: علماء الأندلس إبداعاتهم المتميزة وأثرها في النهضة الأوربية، ص32، 33.
[12] محمد كامل حسين: الموجز في تاريخ الطب والصيدلة عند العرب، ص142، 143.
[13] المصدر السابق، ص201.
[14] انظر: الدفاع: رواد علم الطب، ص264.
[15] انظر: كمال السامرائي: الأمراض النسائية في الطب العربي القديم، مجلة المهن الطبية، العدد1- 1964م، ومحمود الحاج قاسم: الطب عند العرب والمسلمين، ص163 وما بعدها.
[16] جوستاف لوبون: حضارة العرب، ص490، 492.
[17] الزركلي: الأعلام، 2/310.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
طريق المسلم © 2012 | الى الأعلى | تعريب وتطوير |