عبد الرحمن الناصر وشمال أفريقيا


علاقة عبد الرحمن الناصر بشمال أفريقيا
لم تقتصر الأخطار التي كانت تُهَدِّد الدولة الإسلامية في الأندلس على ما كان في الأندلس نفسها من ثورات أتت على قواها ومواردها، ولا على ما كان يتربَّص بها من القوى الإسبانية النصرانية المتوثِّبة الطامحة للقضاء على المسلمين في الأندلس؛ بل وفي كل بقاع الأرض إن استطاعت إلى ذلك سبيلاً، لم تقتصر الأخطار المحدقة على هذا، وإنما تحالف مع هذه الأخطار وشاركها خطرٌ آخرُ يتربَّص بها في بلاد شمال أفريقيا، خطرٌ لا يقلُّ طموحًا عن طموح النصارى في الشمال، فهو -أيضًا- يتمنى السيطرة على هذه الجزيرة، وعلى ما فيها من خيرات، ويعلم أنها لن تَدِين له بشكل كامل إلا إذا اعتنقت معتقده، وتخلَّت راغبة أو راهبة عما تعتقد؛ إنه الخطر الشيعي الإسماعيلي، الذي تمثَّل في هذا الوقت في الدولة العبيدية(المعروفة زورًا بالفاطمية).
عبد الرحمن الناصر وشمال أفريقيا
الدولة الفاطمية (العبيدية الشيعية)
أ
 ُعلن قيام هذه الدولة الخبيثة بالمغرب سنة (297هـ)، بعد نجاح أبي عبد الله الشيعي في دعوته، وجذب الأعوان والأنصار لها، وقيامه بمبايعة «عبيد الله المهدي» بالخلافة، وكان ذلك في ظلِّ انشغال الإمارة الأموية في ذلك الوقت بمواجهة الثورات، التي كانت تعصف بالأندلس من الداخل، كما كانت مشغولة بردِّ اعتداءات نصارى الشمال على أرضها، وكانت أضعف -في ذلك الوقت- من أن تُسيطر على هاتين الجبهتين معًا، فكيف إذا فُتحت عليها جبهة ثالثة؟! ثم إن بلاد شمال أفريقيا لطالما اعتُبِرَت خطَّ الدفاع الأول عن الأندلس؛ لأنها كانت دائمًا قاعدة غزو هذه البلاد.

خطر الدولة الفاطمية العبيدية
كان عبد الرحمن الناصر يعلم بكل هذه الأخطار؛ لقربه من جدِّه الأمير عبد الله، وكان مطلعًا على ما آلت إليه حال الأندلس من ضعف في الداخل والخارج، وما آل إليه حال الأعداء من قوَّة وتمكُّن، ولكنه -ومع علمه بهذا كله- لم يفعل مثل أعمامه وأعمام أبيه، ولم يترك الأمر بالكلية لغيره يتحمَّل أعباءه، وإنما تصدَّر لهذا الأمر، وقام به حقَّ القيام.
فإلى جوار المهامِّ العظيمة التي اضطلع عبد الرحمن الناصر بها منذ تَوَلِّيه الحكم، إلا إنه ومع ذلك كان منذ اللحظة الأولى يرقب كل ما يحدث في بلاد الشمال الإفريقي بعين الحرص والحذر، وأنقذه وخفَّف عنه في ذلك الوقت أن الدولة العبيدية كانت هي الأخرى مشغولة بتوطيد أركانها في المغرب؛ لأنها ما كانت تستطيع الانطلاق إلى الأندلس أو إلى مصر إلاَّ بعد أن تستقرَّ في المغرب أولاً.
ولكن استقرار هذه الدولة في المغرب سيكون على حساب الأندلس بعد ذلك.
المواجهة بين عبد الرحمن الناصر والدولة الفاطمية (العبيدية الشيعية)
لم يستطع عبد الرحمن الناصر أن يصبر حتى يقضي على كل الثورات في الأندلس قضاء مبرمًا، ولا أن يقضي على شوكة نصارى الشمال أولاً، وكذلك لم ينتظر حتى يفرغ العبيديون من أمر المغرب، ثم يأتي دور الأندلس، وإنما سارع هو إلى نقل المعركة إلى أرض المغرب؛ ليشغلهم بالمغرب عن العبور إلى الأندلس، وليستطيع تقوية مركزه في المغرب، فيتمكن من تهديد سلطان العبيديين هناك بعد ذلك، وفي ذلك براعة حربية؛ فهو بذلك يُشَتِّت جهود العبيديين العسكرية والسياسية، ويشغلهم عن الأندلس بالمغرب، ويعاقبهم على مساندتهم ومساعدتهم للثائرين عليه، بأن يُساعد هو -أيضًا- كلَّ مَنْ يسعى للخروج عليهم، ويضمُّه عبد الرحمن الناصر إليه، في حين لا يستطيع العبيديون أنفسهم أن يفعلوا ذلك.
ففي سنة (319هـ) أرسل الناصر أسطولاً قويًّا حشد له ما استطاع من رجال وعتاد، وأرسله إلى سَبْتَة فاستولى عليها من يد ولاتها بني عصام حلفاء العبيديين (الفاطميين)، ثم سارع بتحصينها، وإمدادها بالجند والسلاح، والقادة الأكفاء؛ لأنه يعلم جيدًا أن العبيديين لن يركنوا إلى الراحة والدعة، ولن يتخلَّوْا عن سَبْتَة بسهولة؛ ليس لأنها مفتاح الأندلس فحسب، ولكن لأنها إن بقيت في يد الناصر، فإنها ستُهَدِّد دولتهم الناشئة التي لم تستقرّ بعدُ، وقد عرفنا من قبلُ أهمية ميناء سَبْتَة بالنسبة للأندلس، ورأينا كيف أن موسى بن نصير لم يستطع العبور إلى الأندلس إلاَّ بعد أن أمِن خطر سَبْتَة، وها نحن الآن نعرف أهمية سَبْتَة بالنسبة للمغرب -أيضًا- لذلك لا نعجب إذا عرفنا إصرار إسبانيا على أن تبقى سَبْتَة ومليلة تحت يدها حتى الآن.
لقد كانت هذه خطوة جريئة حازمة من عبد الرحمن الناصر، أشعرت العبيديين -بلا شكٍّ- وحلفاءهم بالخوف والجزع من هذه القوة الجديدة، التي بدأ نجمها يبزغ في الأندلس، فإلى جوار الثورات التي يعمل هذا الرجل على إخمادها في بلاده، وبالرغم من وجود نصارى الشمال المتربِّصين به وبدولته، إذا به يفتح على نفسه جبهة جديدة في المغرب، وقد كان المنتظر منه أن يُسارع إلى الاستنجاد بهذه الدولة الفتية التي بدأت تظهر في المغرب؛ لتُعينه على أعدائه الكثيرين؛ لذلك فإننا نعتبر أن هذه الخطوة كانت من أكثر خطوات عبد الرحمن الناصر –رحمه الله- جُرْأة وشجاعة وحزمًا، كما كانت أكثرها دلالة على حُسن سياسته وفهمه الرائع لكيفية سير الأمور.
كان يمكن لعبد الرحمن الناصر أن يركن لهذا التقدم وهذا النصر المهم؛ فلقد شغلهم بسَبْتَة عن الأندلس، إلا أن الرجل كان قد عزم على أن يمضي في طريقه إلى النهاية، وألا تضعف همته أو تفتر، فراسل الحسن بن أبي العيش بن إدريس العلوي حاكم طَنْجَة لينزل له عن طَنْجَة؛ لتكتمل بذلك سيطرته على رأس العدوة، فرفض ابن أبي العيش ذلك، فحاصره أسطول الأندلس، وضيَّق عليه حتى اضطره إلى التسليم[1].
وفي سنة (319هـ) -أيضًا- أرسل إليه موسى بنُ أبي العافية أمير مِكْنَاسَة يحالفه ويدخل في طاعته، ويَعِدُه بالدعوة له في المغرب، وبتقريب أهل المغرب وزعمائهم منه، فتَقَبَّله عبد الرحمن أحسن قبول، وأمدَّه بالمال، وساعده في حروبه في المغرب؛ ليُقَوِّيَ مركزه[2]، وبادر على إثر ذلك زعماء الأمازيغ (البربر) من الأدارسة وزناتة إلى طاعة عبد الرحمن الناصر والدعاء له على المنابر، وامتدَّ نفوذه إلى تاهرت، وفاس.
وفي سنة (323هـ) أرسل القائم العبيدي جيشًا بقيادة ميسور الصقلبي إلى موسى بن أبي العافية، ودارت بينهما عدة معارك انهزم فيها موسى بن أبي العافية، وهرب إلى الصحراء، ثم استنجد بالناصر فأنجده، وهُزم العبيديون، وعاد لموسى بن أبي العافية ملكه في المغرب وقوي أمره[3]، كما قوي نفوذ الناصر لدين الله هناك؛ حتى إن مَنْ ثاروا على الدولة العبيدية في المغرب كانوا يُراسلونه ويعترفون له بأنه الأحق بالولاية، وكان عبد الرحمن الناصر يصلهم ويُحْسِنُ إليهم[4].
كل هذا والمعركة دائرة في المغرب، فلمَّا قويت شوكة العبيديين في المغرب، وتغلَّبُوا على ما قام عليهم من ثورات، أقدم المعز لدين الله العبيدي على ما يُشبه جسَّ نبض عبد الرحمن الناصر، فأمر أسطوله بضرب سواحل الأندلس، وبالفعل هاجمت سفن العبيديين ثغر ألمَرِيَّة سنة (344هـ)، وأحرقت ما فيه من سفن، وخَرَّبت كل ما استطاعت تخريبه، فكان ردُّ عبد الرحمن الناصر عليهم عنيفًا؛ إذ أمر فخرج أسطوله إلى سواحل الدولة العبيدية، وردَّ لهم الصاع صاعين، وعادوا سنة (345هـ) [5]، فعلم العبيديون أنه لا طاقة لهم بالأندلس، فلم يُعيدوا الكَرَّة.
وفي سنة (347هـ) اجتاحت قوات العبيديين بقيادة جوهر الصقلي المغرب الأقصى، ودخلت فاس وقتلت عامل عبد الرحمن الناصر عليها، فأسرع عبد الرحمن الناصر بتجريد حملة أندلسية عبرت إلى المغرب، واستطاعت ردَّ العبيديين على أعقابهم[6].
ثم لم يلبث عبد الرحمن الناصر أن مرض سنة (349هـ)، ثم توفي –رحمه الله- سنة (350هـ).

[1] أبو العباس أحمد الناصري: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، 1/253.
[2] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/204.
[3] انظر: تاريخ ابن خلدون، 1/136.
[4] انظر: ابن عذاري: البيان المغرب، 2/213.
[5] انظر ابن عذاري: البيان المغرب، 2/221، وتاريخ ابن خلدون 4/46.
[6] ابن عذاري: البيان المغرب، 2/222.

0 التعليقات:

إرسال تعليق

 
طريق المسلم © 2012 | الى الأعلى | تعريب وتطوير |